العلمانية، بصفتها إحدى الإيديولوجيات الحديثة، تركز على فصل الدين عن الحياة العامة وتوجّه مسار الحضارة نحو الجوانب المادية فحسب. وهذه المقاربة قد تؤدي إلى إضعاف دور الإيمان في بناء الحضارة، لأنها تميل إلى تهميش القيم الروحية التي تعدّ الأساس الجوهري في تاريخ نهضة الأمم. واستجابةً لهذا الطرح، رفض بعض المفكرين المسلمين الادعاء بأن الدين عامل تخلّف للأمم، بل أكّدوا أنّ ضعف الإيمان هو السبب الرئيس لانحطاط الحضارة. ومن بين المفكرين الذين تناولوا هذه القضية، نجد مالك بن نبي، الذي شدّد في مؤلفاته على أنّ الإيمان يؤدي دورًا جوهريًا في بناء حضارة مستدامة. ويعلّم الإسلام أن تقدم الحضارة لا يُقاس من منظور مادي فقط، بل يعتمد أيضًا على الجوانب الأخلاقية والروحية التي تمثّل الركائز الأساسية لاستمرار الأمة. وفي هذا السياق، تكتسب أفكار مالك بن نبي أهمية كبيرة بوصفها جهدًا نقديًا للمنظور العلماني ومحاولة لإعادة الإيمان كعامل رئيس في بناء الحضارة. واستنادًا إلى صياغة المشكلة المطروحة، يهدف هذا البحث إلى دراسة العلاقة بين الإيمان والحضارة من منظور مالك بن نبي، من خلال استكشاف كيفية التفاعل بينهما في تشكيل حضارة متوازنة بين الجوانب المادية وغير المادية، بالإضافة إلى تحليل مفهوم الإيمان في نظرية الحضارة عند مالك بن نبي ومدى إسهامه في تطور الحضارة الإسلامية. استنادًا إلى إشكالية البحث المطروحة، يهدف هذا البحث إلى دراسة العلاقة بين الإيمان والحضارة عند مالك بن نبي، من خلال التعمّق في كيفية التفاعل بينهما لبناء حضارة متوازنة تجمع بين الجوانب المادية وغير المادية. كما يهدف البحث إلى فهم مفهوم الإيمان في نظرية الحضارة عند ابن نبي، واستكشاف تأثيره على تطوّر الحضارة الإسلامية. ولتحقيق أهداف البحث، تمّ تصنيفه كبحث مكتبي (Library Research) يعتمد على دراسة المصادر والمراجع السابقة، باستخدام منهجية بحثية نوعية (Qualitative Research) بتصميم وصفي وتحليلي. اُستخدم المنهج الوصفي لعرض نظرية الحضارة عند مالك بن نبي، بينما اُستخدم المنهج التحليلي لدراسة كيفية ارتباط الإيمان بهذه النظرية وتأثيره على الحضارة الإسلامية. بعد إتمام هذا البحث، توصّل الباحث إلى عدّة نتائج مهمّة تتعلّق بنظرة مالك بن نبي للإيمان والحضارة. أولاً، أكّد ابن نبي أنّ الإيمان هو القوة الدافعة التي ترتبط بالحضارة المؤلّفة من العناصر الثلاثة: الإنسان، التراب، والوقت. وأوضح أن تكامل هذه العناصر مع الإيمان هو الشرط الأساسي لبناء حضارة حقيقية. ثانيًا، شدّد على أهمية الإيمان في تحقيق التوازن بين استغلال الموارد الطبيعية وإدارة الوقت، مشيرًا إلى أنّ الإيمان يساعد الإنسان على توظيف الموارد بحكمة واحترام الوقت كأمانة من الله. ثالثًا، أوضح ابن نبي أنّ الحضارة تمرّ بمراحل عدّة، بدءًا من غياب الإيمان وصولاً إلى النهضة التي يحرّكها الإيمان والعقل. وفي مرحلة الجمود، حيث يضعف الإيمان، تتدهور القيم الأخلاقية والاجتماعية، ما يؤدّي إلى الانحطاط. لذلك، يرى ابن نبي أنّ تجديد الإيمان وتطبيقه في الحياة اليومية ضروري لتحقيق حضارة متوازنة بين التقدّم المادي والقيم الأخلاقية الإسلامية. على الرغم من النتائج المهمّة التي توصّل إليها البحث بشأن علاقة الإيمان بالحضارة، يدرك الباحث أنّ هناك حاجة لمزيد من الدراسات المستقبلية. لذا، يُوصى بما يلي: (1) تعزيز التعاون بين المجتمع والمؤسسات التعليمية والحكومة لترسيخ القيم الإيمانية في بناء الحضارة، (2) إدراج التعليم القائم على الإيمان في المناهج الدراسية، (3) إجراء بحوث إضافية حول تأثير الإيمان على الابتكار والتقدّم الاجتماعي والثقافي والاقتصادي في سياقات متعدّدة. نأمل أن يُساهم هذا البحث في إثراء النقاش الأكاديمي حول الإيمان والحضارة. الكلمات المفتاحية: مالك بن نبي، الإيمان، الحضارة، العناصر، المراحل.